كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن، ليس فيها حديث قائم كما رأيت.
وقال ابن حجر في فتح الباري: واحتج الحنفية بما روى عن علي: أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبدالرزاق، والدارقطني، وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، والمخرج في الصحيحين، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد.
وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيحمل على طواف القدوم، وطواف الإفاضة. وأما السعي مرتين فلم يثبت، وقال ابن حزم: لا يصح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلًا. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: وأما من قال: إنه حج قارنًا قرأنًا طاف له طوافين وسعى سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حج وعمرة معًا وقال: سبيلهما واحد، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع، كما صنعت. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، قوال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. وعن علي رضي الله عنه أيضًا: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فطاف طوافين، وسعى سعيين، وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة، بل لا يصح منها حرف واحد. أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة، وقال الدارقطني: لم يروه عن الحكم، غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث. وأما حديث على الأول ففيه حفص بن أبي داود، وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خراش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف. وأما حديثه الثاني: فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال الدارقطني: عيسى بن عبد الله يقال له مبارك، وهو متروك الحديث. وأما حديث علقمة، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم، عن علقمة. قال الدارقطني وأبو بردة ضعيف، ومن دونه في الإسناد ضعفاء. انتهى. وفيه عبدالعزيز بن أبان. قال يحيى: هو كذاب خبيث، وقال الرازي والنسائي: متروك الحديث. وأما حديث عمران بن حصين:
فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدث به على الصواب مرارًا، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي. انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم.
فإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت، فاعلم أن الذين قالوا: بأن القارن يطوف طوافًا، ويسعى سعيا كفعل المفرد، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين.
الأول: ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي وابن حجر وابن القيم عن الدارقطني، وغيره من أوجه ضعفها.
والثاني: أنا لو سلمنا تسلميًّا جدليًّا أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضًا، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فيه معارضة بما هو أقوى منها، وأصح، وأرجح، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح، الدالة على أن النَّبي لم يفعل في قرأنه. إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه، وحديث ابن عباس عند البخاري وكالحديث المتفق عليه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة «يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك» كما قدمناه واضحًا، وقد اتضح من جمع ما كتبناه في هذه المسألة: أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج، وأن المتمتع يطوف، ويسعى لعمرته، ثم يطوف ويسعى لحجته، ومما يوضح من جهة المعنى: أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من مِنًى أنه يهل بالحج بالإجماع، والحج يدخل في معناه دخولًا مجزوما به الطواف والسعي، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها، وسعيها، لكان إهلاكه بالحج إهلالًا بحج، لا طواف فيه ولا سعي، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة:
الفرع الأول: اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجمع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ثم يبتدئ طوافه مارًا بجميع بدنه على جميع الحجر، جاعلًا يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفًا بالبيت، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ويدور بالبيت. فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوافة واحدة، ثم يفعل كذلك، حتى يتمم سبعًا.
وأصح أقوال أهل العلم فيما يظهر لنا والله أعلم: أنه لابد من أن يكون خارجًا جميع بدنه، حال طوافه عن شاذروان الكعبة، لأنه منها، وكذلك لابد أن يكون خارجًا جميع بدنه حال طوافه عن جدار الحجر، لأن أصله من البيت، ولَكِن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم، ولأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين، لأن أصلهما من وسط البيت، لأن قريشًا لم تبن ما كان عن شمالهما من البيت، وهو الحجر الذي عليه الجدار وأصله من البيت كما بينا، ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن عائشة رضي الله عنها.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «ألم ترى قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر، لفعلت» قال عبد الله رضي الله عنه: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. وفي رواية عنها في صحيح البخاري قالت: «سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض»اهـ. والمراد بالجدر بفتح الجيم، وسكون الدال المهلمة هنا: الحجر. وفي رواية عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أيضًا قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حداثة قومك بالكفر، لنقضت البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام، فإن قريشًا استقصرت بناءه، وجعلت لها خلفًا» قال أبو معاية: حدثنا هشام خلفًا يعني: بابًا. وفي رواية عنها فيه أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، باباَ شرقيًّا، وبابًا غربيًّا فبلغت به أساس إبراهيم» فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جريرٌ: فقلت له أين موضعه؟ قال: أريكه الآين، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: ها هنا، قال جوير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. انتهى من صحيح البخاري وزيد المذكور هو ابن رومان وجبرير هو ابن حازم، وهما مذكوران في سند الحديث المذكور. قوال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة. عن أبيه عن عائئشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعتلها على أساس إبراهيم، فإنَّ قريشًا حين بنت البيت استقصرت ولجعت لها خلفًا». اهـ.
وقال النووي خلفًا: أي بابًا من خلفها، وفي رواية عنها فيه أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟» قالت: فقلت يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعدِ إبراهيم. وفي رواية عنها فيه أيضًا قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر» وفي رواية عنها فيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين، باباَ شرقيًّا، وبابًا غربيًّا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشًا اقتصرتها حين بنت الكعبة» انتهى من صحيح مسلم. وحديثها هذا المتفق عليه الذي ذكرنا بعض رواياته في الصحيحين، نص صريح فيما ذكرنا وبه تعلم أن قول من زعم من أهل العم أن من سلك نفس الحجر في طوافه، ثم رجع إلى بلده، لزمه دم مع صحة طوافه غير صحيح لما رأيت من أن الحجر من البيت، وأن الطواف فيه ليس طوافًا بالبيت. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم، إلى مكة، سواء كان طواف عمرة، أو طواف قدوم في حج، وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها، ولا يرمل، وذلك ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد هو ابن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتم حمى يثرب، فأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم». ثم قال البخاري رحمه الله: حدثنا أصبع بن الفرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطوافٍ من السبع».
ثم قال البخاري رحمه الله: حدثني محمد، حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «سعى النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة» تابعه الليث. قال: حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: فما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين، وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه. انتهى منه، وفي حديث جابر الطويل في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم، عند مسلم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا الحديث. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل، إذا طاف بين الصفا والمروة» وفي لفظ عند البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول، خب ثلاثًا ومشى أربعًا، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة» زاد مسلم: وكان ابن عمر يفعل ذلك.
وبهذه النصوص الصحيحة يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف العمرة وطواف القدوم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك عامة أهل العلم إلا من شذ، وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب. ولا يلزم بتركه دم على الأظهر، لعدم الدليل، خلافًا لمن أوجب فيه الدم.
تنبيهان:
الأول: إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها، والغالب اطراد العلة وانعكاسها، بحيث يدون معها المعلل بها، وجودًا وعدمًا؟
فالجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف، كما قال تعالى: {واذكروا إذ إنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26] الآية وقال تعالى عن نبيه شعيب {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86].
وصيغة الأمر في قوله: اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذًا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف. والكثرة بعد القلة، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها، والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف، لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه: فأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. ولفظه عند مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. قال المشركون: إنه يَقْدَمُ عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحِجْر، وأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدَهُم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أَجْلَدُ من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاءُ عليهم. فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان: فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله: فجلسوا مما يلي الحجر، يعني: أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء، وإذًا فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها، من الحجر إلى الحجر.
ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه: قال: «رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثًا، ومشى أربعًا» وفي لفظ في صحيح مسلم أيضًا عن نافع: أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. وفي لفظ عند مسلم أيضًا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود، حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف» وفيه عن جابر أيضًا بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثةَ أطواف من الحجر إلى الحجر».